حروفٌ دامعة لرحيل زميل
كالصاعقة أو أشدُّ؛ هو خبرُ رحيلِ صديقٍ وزميلٍ وعزيزٍ عنك إلى الأبد، هكذا واجهتُ خبرَ رحيل أخي وصديقي وزميل الدراسة في المرحلتين الأساسية والثانوية الأستاذ عبد العالم عبد الرحمن قاسم إثر مرضٍ مفاجيءٍ حلَّ به ، لن أكون مبالغاً إن قلت بأني عند مشاهدتي الخبر في مجموعة قريتنا الصغيرة أو جنتنا على الواتس أب تسمّرتُ مكانيَ ولم أكدْ أُصدّق ما أرى، فرأيت التعازي تنهالُ تعزيةً بعد أخرى، فهللتُ وحوقلتُ واسترجعت، وطافت بي الذاكرةُ طويلاً إلى الوراء سنوات وسنوات، لاستعراض مواقف ومشاهد، وجلساتٍ وسمرات، وحواراتٍ ولقاءات.
ثم أفقتُ بعدها لما هو أهمٌّ من ذلك تلك اللحظة ، وهو التواصلُ بأخي الغالي الأخ الأكبر للفقيد أ. عبد الفتاح للتعزية أولاً، ثم السؤال عن سبب الوفاة، فأجابني للتو بصوتٍ يملؤه الألم بِردّ السلام ثم أردف مباشرة بالقول: أخي غازي، كان الأخ عبد العالم يُقدّرك ويُعزّك كثيراً، وكنتَ أكثر الأشخاص ذِكراً في فمه، وأعزُّ الأشخاص وأقربُهم إلى قلبه حسب تصريحاته المتكررة، وإحساسي بذلك لايخيب بالطبع؛ فأنا ألمسُ تلك المعزة وذلك التقدير بكل وضوح منذ تاريخ بدء العلاقة سابقاً ، ومن خلال التواصل وما كُنا عليه لاحقاً، ولا غرابة في ذلك، وأنا أبادِلُه الشعور نفسَه، رغم بعد المسافة وطول فترة اللقاء الذي تجاوز أكثر من خمس سنوات ربما.
أخي عبد العالم.. ذلك الحبيبُ الذي كان لايطيبُ لأحدنا جلوساً ولا خروجاً إلا مع بعضنا، وإلا فإن المقام والمقال والبقاء والمقيل والسمر لايحلو ولايطيب.
أخي عبد العالم.. ذلك الزميلُ الذي كانت لا تطيب غرفة الدراسة ولا اداء المدرس ولا طريق المدرسة إلا بالرفقة الثنائية بيننا، والسير جنباً إلى جنب، والجلوس معاً على كرسي الدراسة.
أخي عبد العالم.. ذلك الرفيقُ الذي كانت لا تطيب أوقات الظهيرة والمقيل بعد الدوام إلى المساء للنقاش أو المراجعة وتنفيذ التكاليف وحلّ الواجبات إلا بالجلوس سوياً.
أخي عبد العالم.. ذلك الصاحب الذي كنا نتقاسم ما نحصل عليه من مصاريف أو نقتنيه من هنا أو هناك مناصفة، وكما نتقاسم مايفرحنا ربما تقاسمنا الألم كذلك، ولم يحدث أن تجاوز نصيب أحدٌ منا نصيب صاحبه.
أخي عبد العالم.. ذلك الصديقُ الذي جمع بيني وبينه الحب وألّف بيننا الوُد، تحت رعاية الإخلاص ودعامة الإيثار، ورسّخ ذلك تبادلُ الزيارات المتكررة لبعضنا، تارةً في بيته وتارة في بيتي، لدرجة إحساس كل أفراد أسرتينا بحجم تلك العلاقة ومستوى تلكم الصداقة، وذلك مالمسه كلٌ منا من أفواه الآباء والأمهات والإخوة والإخوات .
أخي عبد العالم.. ذلك الوفيُّ الذي لم يُثنهِ بعد المسافة ولا طول فترة اللقاء عن التواصل بمختلف الوسائل والوسائط، ومازالت الرسائل النصية في مختلف حساباتنا تحكي ذلك المستوى من الوفاء وستظل.
أخيراً وليس آخراً، أخي عبد العالم.. لا أستطيعُ حصرَ مايمتلكُ ذلك العملاق من الأخلاق، و مما جعله منفرداً في صفاته، و فذّاً في سماته، ومختلفاً في بصماته، عن سائر الزملاء والأصدقاء، وتلك هي أسرار الله في خلقه يضعها في من يشاء وكيف يشاء من مخلوقاته.
هكذا كنتُ أنظرُ إليه.. فِكرُهُ مُتّقد ،وشعورُه مُرهف ، وأخلاقُه سامية، وثقافته عالية، ومهاراته متعددة.
استفدت منه الكثير من خلال المجالسة، واكتسبت منه الوفير من خلال المعايشة، ولا أدري مدى ما استفاده هو من صديقه إن كان ذلك حاصلاً أم لا.
توافَقْنا في كثير من الأمور، وتمايَزْنا واختلفنا في بعض المهارات، فكان ذلك التوافق عامِلَ بناء لازدياد العلاقة، وكان التمايز و الاختلاف في المهارات عاملَ تكاملٍ فيما بيننا، فزاد حُبّنا، ونما وُدّنا، وسمت علاقتنا.
وأخيراً.. لايسعُ هذا المحبُّ في نهاية المطاف هنا إلا أن يسكبَ حبرَ العين على هذه الصفحات ألمًا على الفراق، ودموعَ القلب أسىً على الرحيل، وستظلُّ دعواتُه سحائبَ تتغشاه بالرحمات بإذن الله ، واللهَ أسألُ أن يُنزلَ عليه غيثَ عفوه، ويُسدِل عليه سترَ رحمته، ويفرغَ علينا وعلى أُمّهِ وإخوانه وسائر محبيه عظيمَ صبرِه، إنه عفوٌ كريمٌ جوادٌ، وإنا للّه وإنا إليه راجعون.
د. غازي الحيدري
21ديسمبر 2024م
تعليقات
إرسال تعليق